بعد تنظيم أفضل مونديال في التاريخ.. اقتصاد قطر يواصل الازدهار
الدوحة: شكلت استضافة دولة قطر لبطولة كأس العالم FIFA قطر 2022 محطة مهمة على طريق تنويع اقتصاد البلاد، أحد أهداف إطلاق الرؤية الشاملة لتنمية دولة قطر “رؤية قطر الوطنية 2030” في العام 2008، الرامية لتحويلها إلى “دولة متقدمة قادرة على تحقيق التنمية المستدامة، وعلى تأمين استمرار العيش الكريم لشعبها جيلا بعد جيل”.
وضمن أربع ركائز تقوم عليها “رؤية قطر الوطنية 2030″، تستهدف الركيزة الثالثة وهي: “التنمية الاقتصادية”، تطوير اقتصاد معرفي يتصف بكثافة الاعتماد على البحث والتطوير والابتكار، وبالتميز في ريادة الأعمال، والتعليم رفيع المستوى، ويتناقص فيه تدريجيا الاعتماد على الأنشطة الهيدروكربونية.
ويدخل في هذا التوجه نحو 12 عاما من التخطيط المحكم لتنظيم بطولة كأس العالم FIFA قطر 2022، الأولى من نوعها في العالم العربي، حيث أنفقت قطر نحو 730 مليار ريال تقريبا على “المشروعات الرئيسية”، ومشروعات البنية التحتية الخادمة للبطولة، بما في ذلك تشييد استادات البطولة، وملاعب التدريب، وإنشاء القطارات السريعة، وشبكات مترو الأنفاق والمطارات والموانئ والمياه والكهرباء والصرف الصحي، والحدائق والمستشفيات والمدارس والنقل العام وغيرها من الأعمال اللوجستية.
وعلى مدى الأعوام المذكورة، سمحت المخصصات المالية لهذه المشاريع بإنفاق شركات قطرية ومستثمرين من القطاع الخاص مليارات الريالات على مشروعات تجارية، مثل: مراكز التسوق، والفنادق، والعقارات، والساحات العامة الترفيهية، وهو ما تردد صداه في جميع شرايين الاقتصاد القطري، من البناء، والتجارة، والنقل، والعقارات إلى السياحة وجذب الاستثمار الأجنبي وتطوير الزراعة وغيرها.
وعلى الرغم من أن بعض فترات هذه الأعوام واكبتها تحديات اقتصادية نتيجة تداعيات جائحة “كوفيد – 19” والحرب الروسية – الأوكرانية وغيرها، كانت النتيجة الطبيعية لهذا التخطيط هي تعزيز تنافسية الاقتصاد القطري وتنويع موارده، ومده بقدرة كبيرة على النمو والفاعلية في مواجهة الضغوط المتزايدة على النشاط الاقتصادي العالمي، بلغ إثرها الناتج المحلي الإجمالي للدولة نحو 864 مليار ريال بنهاية العام 2022، ارتفاعا من نحو 455 مليار ريال في عام 2010، وتخطت مساهمة القطاع غير الهيدروكربوني نحو 63 بالمئة من إجمالي الناتج خلال العام 2022، ارتفاعا من نحو 55 بالمئة في 2010.
كما حقق الاقتصاد القطري في العام 2022 “عام تنظيم البطولة” نموا بلغ 5.3 بالمئة، متفوقا على توقعات لصندوق النقد الدولي عند 3.4 بالمئة، وبلغ فائض موازنة الدولة للعام نفسه 89 مليار ريال “24.4 مليار دولار”، وذلك مع توقع صندوق النقد أن تظل مؤشرات الموازنة العامة في قطر قوية خلال السنوات المقبلة.
في هذا السياق، اعتبر الدكتور عبدالله الخاطر الخبير الاقتصادي، في تصريح لوكالة الأنباء القطرية “قنا”، أن كأس العالم FIFA قطر 2022 لعبت الدور الرئيسي في تنويع الاقتصاد القطري خلال السنوات العشر الماضية، قائلا: “لقد أوجدت بطولة كأس العالم FIFA قطر 2022 حافزا حقيقيا لمختلف القطاعات الاقتصادية، ومكنت من وضع رؤية واضحة، وحددت أهداف عمل الجميع من أجل تحقيقها وفق برنامج زمني محدد، سخر كل إمكانيات الدولة للخروج بتلك الصورة المبهرة التي وصلت أرجاء المعمورة كافة.
وأضاف الدكتور الخاطر أن سنوات التحضير لاحتضان كأس العالم وما رافقها من ضبط الموازنات، هي عوامل ساهمت في إرساء بنى تحتية ضخمة في الطرقات والموانئ والمطارات والفنادق والمؤسسات الصناعية، شملت مختلف القطاعات الاقتصادية، وكانت الرافعة الأساسية لبروز قطاعات باتت قاطرة للتنويع الاقتصادي على غرار قطاع الضيافة وملحقاته، الأمر الذي عزز صلابة الاقتصاد القطري ومكنه من التعامل مع الصدمات والتحديات الاقتصادية العالمية.
وأشار إلى أنه علاوة على استفادة الاقتصاد القطري من البنى التحتية التي تم إرساؤها في كأس العالم، تمكن هذا القطاع خلال الفعاليات التي عاشتها مختلف مناطق الدولة أيضا من تجاوز التعامل التقليدي مع سائح قصد الدولة للاستمتاع بمباريات كرة القدم إلى اعتباره ضيفا يستوجب نوعية خاصة من الخدمات، مكنت من إرساء مقاييس جديدة سيكون لها دور كبير في استقطاب ضيوف قطر أو السياح الراغبين في زيارة الدولة في الفترة المقبلة.
وأوضح الدكتور الخاطر أن كأس العالم أبرزت قدرات قطر في العديد من المجالات، وساهمت في رفع حصة قطر من الاستثمار الأجنبي، خاصة من الشركات الكبرى التي أصبحت ملمة ببيئة العمل في الدولة، وسيكون لها دون شك في السنوات المقبلة دور محوري في جذب المزيد من الاستثمارات إلى دولة قطر ودول المنطقة.
واللافت هنا أن الزخم الذي منحته البطولة للاقتصاد القطري ترافق مع تنفيذ قطر إصلاحات تشريعية لتهيئة مناخ الأعمال والاستثمار وفق أفضل المعايير العالمية؛ إذ أجاز قانون الاستثمار لعام 2019 تأسيس شركات أجنبية بنسبة ملكية 100 بالمئة في جميع القطاعات، باستثناء عدد قليل من القطاعات الاستراتيجية، وأدخلت الحكومة في 2020 إصلاحات جديدة بشأن ملكية العقارات، تمنح غير القطريين الأهلية لامتلاك العقارات والاستثمار في القطاع، وبموجبها يمنح المقيمون الذين يستثمرون في قطاع العقارات العديد من المزايا مثل: الإقامة، والرعاية الصحية المجانية، والتعليم المجاني، وإمكانية الاستثمار في أنشطة تجارية محددة.
كما تم في العام 2020 تطبيق إصلاحات في سوق العمل، وتطبيق الحد الأدنى للأجور، ووافقت الحكومة القطرية في 2021 على زيادة نسبة ملكية المستثمرين غير القطريين حتى 100 بالمئة في بعض الشركات المدرجة في البورصة، وفي 2022 أعلنت وزارة التجارة والصناعة، بالتعاون مع وزارة الداخلية ووزارة العمل، عن إطلاق خدمة إصدار رخصة تجارية “تحت الإنشاء” لجميع الأنشطة التجارية، كما أطلقت وزارة العمل في العام ذاته حزمة جديدة من الخدمات الإلكترونية تضم 50 خدمة وفق خطة الوزارة لرقمنة جميع خدماتها، وأطلقت وزارة التجارة والصناعة كذلك في 2022 منصة خدمات الصناعة، وهي واجهة إلكترونية تزود مستثمري قطاع الصناعة بالخدمات الإلكترونية عبر مختلف مراحل المشاريع الصناعية.
وتعليقا على ذلك والإرث الذي تركه تنظيم البطولة، قال الدكتور خالد الكواري الخبير الاقتصادي، في تصريح مماثل لوكالة الأنباء القطرية /قنا/: إن تنظيم بطولة كأس العالم FIFA قطر 2022 نقطة تحول جوهرية في مسار التنويع الاقتصادي بدولة قطر، أفضت إلى سن تشريعات اقتصادية، وتوفير بيئة استثمارية، ومناخ أعمال جاذب، وهو ما عزز تنويع الهياكل الاقتصادية، ومصادر الدخل، وتقليل الاعتماد على المواد الهيدروكربونية، وتشجيع دور القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي لدفع عجلة التنمية.
وأوضح أن استضافة المونديال انعكست على كافة القطاعات الاقتصادية من حيث الترويج والاستثمار واستقطاب رؤوس الأموال الأجنبية، حيث استقطبت قطر خلال العام الماضي 29.78 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وتم إطلاق 135 مشروعا جديدا ضمن مشاريع الاستثمار الأجنبي المباشر، ساهمت في خلق 13,972 وظيفة جديدة خلال 2022، مما ضاعف حجم الإنفاق الرأسمالي للاستثمار الأجنبي المباشر بنحو 25 مرة، وفقا للتقرير السنوي لوكالة ترويج الاستثمار في قطر لعام 2022.
وأضاف أن مونديال قطر 2022 حمل قيمة استراتيجية مضاعفة للدولة وشعبها، من خلال تقديم رسالة للعالم تعكس الصورة الحضارية المشرفة لدولة قطر، وبيان التزامها بمواجهة التغيرات المناخية، وخفض البصمة الكربونية عبر تنظيم بطولة محايدة للكربون، فضلا عن إنعاش قطاعات السياحة والعقار والبضائع والسلع الاستهلاكية والطيران وغيرها، مما انعكس في نتائج الشركات المدرجة بالبورصة في نهاية العام الماضي، والتي سجلت ارتفاعا في الأرباح الصافية بنسبة 10.27 في المئة، لتبلغ 49.483 مليار ريال، مقارنة بـ 44.871 مليار ريال في العام 2021.
وأكد الدكتور الكواري أن إحدى فوائد كأس العالم في قطر هي تقديم قطر كوجهة سياحية رائدة، لافتا إلى أن الأرقام تعكس زيادة التدفقات السياحية الواردة إلى البلاد بعد انتهاء المونديال، حيث سجل قطاع السياحة القطري أداء قويا في الربع الأول من العام 2023 باستقبال قطر لأكثر من مليون زائر، مسجلة بذلك المعدل الأعلى من نوعه خلال الربع الأول من زوارها الدوليين، وهو ما يؤكد حدوث تحول في هذا القطاع المهم، وإسهامه الكبير في تنوع الاقتصاد لجهة أن قطاع السياحة يعتبر محركا لعدد من القطاعات الأخرى.
وأشار إلى نجاح خطط الدولة وسياساتها الرشيدة في استقطاب شركات عالمية في العديد من القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية والواعدة، ومنها قطاعات التكنولوجيا الناشئة، والخدمات اللوجستية والتجارة، والتصنيع والمنتجات الاستهلاكية، والخدمات البحرية، والعلوم الطبية الحيوية، والأغذية والتكنولوجيا الزراعية، وغيرها.
وتوقع الدكتور الكواري أن تواصل قطر جني ثمار البطولة من حيث الترويج للفرص الاستثمارية الفريدة المتاحة، وجذب الشركات الإقليمية والدولية للاستثمار في البلاد، لا سيما أن إطلاق استراتيجية قطر الثالثة 2023 – 2030 (خريطة الطريق الأخيرة لتنفيذ رؤية قطر 2030) لدعم أهداف التنويع الاقتصادي في الدولة بات على الأبواب.
جدير بالذكر أنه بينما تواصل قطر الجهود لتحقيق المزيد من تنويع اقتصادها، أصبحت العديد من الفرص متاحة للمستثمرين، لا سيما في القطاعات غير الهيدروكربونية، ففي قطاع اللوجستيات: أشارت دراسة قطاعية أجرتها وكالة ترويج الاستثمار في قطر إلى أن نسب نمو سوق اللوجستيات بالدولة ستتفوق على مثيلاتها في دول مجلس التعاون الخليجي خلال الفترة 2020 – 2026، وقالت إنه مع النظرة الواعدة لسلاسل التوريد واللوجستيات والتخزين العالمية، التي بلغت قيمتها الإجمالية نحو 9.5 تريليون دولار في عام 2021، ستتاح للمستثمرين الطموحين إمكانية الاستفادة من البنية التحتية المتطورة، والنشاط الصناعي المزدهر، والنهج الصديق للأعمال، التي تتميز بها دولة قطر.
أما في تكنولوجيا المعلومات، فيظل التحول الرقمي والرقمنة في صلب ركائز رؤية قطر الوطنية 2030، ووفقا لشركة جلوبال داتا لتحليل البيانات، فمن المتوقع أن يصل إنفاق دولة قطر على تطوير قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات إلى ما يقدر بنحو 9 مليارات دولار بحلول العام 2024، أي بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 9.2 بالمئة.
وفي البنية التحتية، هناك إنفاق حكومي مرتفع مع توقع بلوغ معدل النمو السنوي المركب 9.5 بالمئة في سوق البناء من عام 2023 إلى عام 2030، والذي من المتوقع أن يصل إلى 123.1 مليار دولار بحلول عام 2030.
أما في الرياضة، فمن المتوقع أن تبلغ قيمة القطاع 26 مليار دولار بحلول عام 2025، خاصة مع استضافة العديد من الأحداث الرياضية الكبرى في السنوات المقبلة، بما في ذلك كأس آسيا 2023، وبطولة العالم للسباحة في الدوحة 2024، وكأس العالم لكرة السلة في 2027، ودورة الألعاب الآسيوية 2030، كما أصبحت القطاعات الناشئة الجديدة -من الاستدامة إلى الذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا الزراعية، والتصنيع المتقدم- محفزات رئيسية للنمو الاقتصادي، مما يوفر فرصا واعدة للمستثمرين.
وتهدف دولة قطر إلى مواءمة قطاعاتها الاستراتيجية مع تطلعات التنمية المستدامة، وتوفير الفرص للمستثمرين المهتمين بالاستدامة، حيث توفر الدولة فرصا لا تقل قيمتها عن 75 مليار دولار بحلول عام 2030 في مجال الاستثمارات المستدامة -طبقا لتقرير الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية الصادر عن وكالة ترويج الاستثمار في قطر- خاصة في مجالات التكنولوجيا الزراعية، وإدارة المخلفات والتكنولوجيا النظيفة.
ومن القطاعات المزدهرة الأخرى ذات الفرص الواعدة للاستثمار الأجنبي المباشر، التكنولوجيا الزراعية، والألعاب الإلكترونية، والأمن السيبراني، والاقتصاد الحلال، والتكنولوجيا النظيفة، والمركبات الكهربائية، والطباعة ثلاثية الأبعاد.
وكانت السيدة كريستالينا غورغييفا، المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، قد اعتبرت في تصريح لوكالة الأنباء القطرية /قنا/ مؤخرا، أداء الاقتصاد القطري مثالا لامعا للإصلاحات والمؤسسات القوية التي تؤدي إلى نمو متنوع لخلق اقتصاد المستقبل للشعب القطري، وذكرت أن مساهمة القطاع غير النفطي في نمو الاقتصاد تعتبر الأقوى في منطقة الخليج، وهذا يدل على أن التنويع الذي تم اتباعه خلال السنوات الماضية يؤتي ثماره.
ومن هنا يمكن القول: إن تبني رؤية قطر الوطنية 2030 قبل 14 عاما مكن من تأمين مستوى معيشي مرتفع للمواطنين القطريين، وتطوير اقتصاد وطني متنوع وتنافسي، الأمر الذي مهد طريق بطولة كأس العالم المعروفة بقدرتها على تحفيز النمو الاقتصادي، وخلق فرص العمل والارتقاء بالبنى التحتية، وتعزيز قطاع التجارة الخارجية، لترك إرث عظيم من المؤكد أنه سيظل حافزا لاستمرار النمو في قطر على مدار الأعوام والعقود المقبلة.
وكالة الأنباء القطرية- قنا