آراء ومقالات

أزمة الانضباط التكتيكي في الكرة السودانية… أنين الغربة والغضب .؟

نجلاء نورين

لا تحتاج الكرة السودانية إلى أكثر من نظرة سريعة على سجلاتها الحديثة في البطولات القارية والعربية لتكتشف ظاهرة مقلقة تتكرر بانتظام: الانهيار باللعب بعشرة لاعبين ! ففي الأسبوع الماضي، تجرّع الهلال مرارة النقص العددي أمام مولودية الجزائر في الدوري الأفريقي، وقبلها بأيام، عاش المنتخب السوداني سيناريو الإقصاء المبكر ضد لبنان في تصفيات كأس العرب، بعد طرد مؤثر منذ الدقيقة الثانية و العشرين. هذه الحوادث المتتابعة هي أعراض واضحة لأزمة عميقة تتطلب تشريحاً دقيقاً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

عندما يُشهر الحكم بطاقته الملونة، يكون التفسير الأول غالباً “التهور” أو “قلة الخبرة”. ولا يمكن إنكار أن الاندفاع غير المحسوب، والتدخلات الخشنة في مناطق غير مؤثرة من الملعب، هي جزء من المشكلة. لكن التهور نفسه له جذور فنية واضحة: فاللاعب المنضبط تكتيكياً هو من يقطع الكرة بالذكاء قبل القوة، ويُجبر خصمه على الخطأ بدلاً من ارتكابه. إن كثرة الأخطاء التي تؤدي إلى إنذارات متتالية ثم طرد، تشير بوضوح إلى خلل في منظومة التأهيل الفني والبدني. هذه المنظومة فشلت في إعداد اللاعبين للمستوى الاحترافي الذي يتطلب الهدوء والتركيز تحت الضغط، وهناك تقصير إداري وفني واضح بتغافلهما عن وضع برامج تدريبية متخصصة للتحكم في الانفعالات وتفادي الأخطاء التراكمية، وبتجاهل أهمية التحليل النفسي والذهني للاعبين.

أما الغربة، الحرب، والضغط النفسي فهي الجانب الخفي من المعادلة ، لذا يبقى التحليل الفني سطحياً دون الغوص في السياق الأشد ألماً الذي يمر به اللاعب السوداني اليوم. فاليوم، وفي ظل هذه الظروف الصعبة، يمارس اللاعب كرة القدم وهو يحمل وطناً بأكمله على كتفيه. الحرب التي دمرت السودان وأدت إلى لجوء الأندية واللاعبين إلى مدن وبلاد جديدة، ليست مجرد تغيير في مكان اللعب؛ هي اقتلاع من الجذور! يعيش اللاعبون بعيداً عن ديارهم، مثقلين بالغربة النفسية، والحزن على الديار، والأخبار اليومية عن الموت والدمار، وانسداد الأفق في وطنهم.

هذا الضغط النفسي الشديد الناتج عن فقدان الاستقرار والعيش في دوامة القلق والإحباط يؤثر بشكل مباشر على وظائف الدماغ المسؤولة عن اتخاذ القرار السريع والهدوء تحت الضغط. فاللاعب الذي يحمل في قلبه غصة الحزن على وطنه يكون أكثر عرضة للاندفاع والانفلات الانفعالي على أرض الملعب، وكأنه يفرغ شحنات الغضب المكبوتة في تدخل متهور لا يخدم الفريق بل يضر. وهنا، تتحول الروح القتالية العالية والغيرة المفرطة على القميص، وهي صفات محمودة في جوهرها، إلى سلاح ذي حدين في غياب الصقل التكتيكي والنفسي، ليصبح هذا الحماس تهوراً غير موجه.

فمهما تنوعت الأسباب والخبايا وراء أزمة الانضباط التكتيكي، سواء كانت فنية أو نفسية، لكن تداركها يمثل ضرورة قصوى تقع على عاتق الإدارات والأجهزة الفنية. لأن اللعب بعشرة لاعبين لا يمثل فقط إهدارًا مضاعفًا لمجهودات اللاعبين المتبقين وإفسادًا للخطط التكتيكية للمدرب، بل يوجه ضربة قاسية للروح المعنوية للجماهير السودانية العريضة التي تملأ المدرجات في بلاد اللجوء بحثا عن فرح و لو عابر ، هذه الجماهير، العاشقة للعبة و قبلها لوطنها المكلوم، والتي تتابع فرقها وتشجعها في كل الميادين و على امتداد أراضي لجوء السودانيين، لم تعد تتقبل الهزائم في هذه الظروف الصعبة؛ فالانتصارات في ملاعب كرة القدم صارت هي المتنفس الوحيد والملاذ من سلسلة الخسارات الوطنية التي فرضتها الحرب.

لذا، فإن معالجة هذه الظاهرة تتطلب مقاربة شاملة؛ تبدأ بتأهيل فني احترافي يركز على ترسيخ الانضباط التكتيكي، مع دعم نفسي عميق يعترف بالظروف الاستثنائية التي يعيشها هؤلاء اللاعبون كلاجئين رياضيين. يجب على الاتحادات والأندية توفير بيئة مستقرة قدر المستطاع، والاستعانة بخبراء نفسيين لمساعدة هؤلاء الأبطال على فصل قلق الحرب عن متطلبات المستطيل الأخضر، وتحويل حماسهم إلى قوة موجهة لا تهور يعيق مسيرتهم نحو النصر الذي صعب في الوطن و استعصى!

بقلم نجلاء نورين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى